الحب بين رحى الواقع وفانتازيا الخيال

64

وحدهم الشعراء ومخرجو السينما من يستطيع أن يخلّد المحبة، كما هي في أول عنفوانها وخصبها الأول، ناضجة ومتأهبة ورشيقة، وممكنة حد المستحيل! هذا الممكن المستحيل في علاقات الحب، هو العطش الذي لا يُروى، والارتواء الذي لا يكتمل، بين حب فقير خجول، وبين حب متوحش وبربري ثائر، وفي الحالتين، نحن أمام مفترق كبير، لا يمكن للمحب أن يتجاوزه، وهو تطابق المحبة مع الإرادة الجوهرية والنزعة الفردية.

فالحب في بلادنا يكاد يكون جسر ورقي، يعبر من فوقه النبلاء والأوغاد والشعراء والملوك والعبيد. يسقط الجميع في وحل الخيبة والخوف والتردد.

لعل هذه المفارقة، هي التي دفعت بإيريك فروم في كتابه المشهور “فن الحب”، للتشكيك في جوهرية دوافع الحب وطقوسه، وعلاقته الطبيعية مع نزعة الإنسان الوجودية، وبشريته التي تقاوم مبدأ الحيوانية الغريزي، في محاولة متوترة يقوم بها المحب للوصول للنهايات السعيدة الروحية منها والجسدية، والتي تحاصرها الأنا العليا -حسب تعبير فرويد-، بكل تفاصيلها الدينية والمجتمعية، وبكل تعقيداتها الرقابية التي تمارسها العادات والتقاليد، والعصبية القبلية، في اختزال مفهوم الشرف لدى الفتاة في صورة نمطية مكرورة، ومستوحاة من حكايات وهمية، تجعل فكرة الحب أمرا مسخا في أدبيات المجتمعات المتخيلة، التي وصفها بيندكت أندرسون بالمجتمعات العصابية.

عندما يتحول الزواج للعبة نرد ومجازفة كبرى، تصبح فكرة الحب أكثر هشاشة مما يمكن تخيله.

أن يخطب الشاب فتاة يحبها في المجتمعات العربية المحافظة، مجازفة كبرى لأسباب سوسيولوجية وعصابية معقدة، لأن المجتمع بصورة عامة، ولا نعمم هنا، يحتقر علاقة الشاب بالفتاة خارج حدود الزواج، بل ويهدد أمنها الفردي والمجتمعي، من خلال تشويه صورتها المثالية، والتي يبتكرها المجتمع دائما كزجاج في غاية الشفافية، قابل للخدش أو الكسر.

اللغة التي يتوسل بها المجتمع في احتقار صور الحب المجازية والواقعية، واختزالها في الجسد والشهوة، هي لغة متوحشة وذكورية، مستوحاة من أرشيف ثقافي يسيء للمرأة والحب معا، ويدفعهما لتقديم التنازلات؛ لإرضاء صورة نمطية مكرورة عن الحب والمرأة، رغم كل التحولات الاجتماعية والثقافية التي يمر بها المجتمع العربي، عبر عقود ما بعد الاستعمار، إلا التنميط الجندري للمرأة والرجل، مسألة دوغمائية ويصعب التشكيك في تجلياتها الثقافية في كثير من مجتمعاتنا، المحاصرة بالعادات والتقاليد، التي يحتفي بها العقل الذكوري المدجج بالفكر الأصولي أو القبلي.

ربما يكمن سر الحب في العطاء والتضحية، والقدرة على ابتكار معجزات كثيرة أمام اختبار الزمن والظروف، والفروقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الحبيب وحبيبته، ولا شك أن التعميم يوقعنا في فخ الاختزال المكرور لكثير من إكليشيهات الحب، التي يجترها الشباب والشابات عن العلاقة بين المحبوب ومحبوبته. ربما يكون بعضها جزءا لا بتجزأ من الواقعية المفرطة، لمأساة الحب المتكررة في مجتمعنا.. أن يقع شاب فقير أو من طبقة معدمة، في حب فتاة من طبقة اجتماعية مخملية، أو حتى متوسطة. النتيجة الطبيعية قد تكمن في استحالة أن يثمر هذا الحب ويكلل بالزواج.

ليس شرطا أن تكون نتيجة المحبة هي الزواج، لكن الكثير من تجارب الحب توضع تحت رحى الزواج، كي يختبر قمح هذه التجربة وتطحنه السنوات والظروف التي تلي الزواج. عندما يتحول الزواج للعبة نرد ومجازفة كبرى تصبح فكرة الحب أكثر هشاشة مما يمكن تخيله.


من منا لم يكن ضحية الوهم والسراب في مرحلة من مراحل حياته أو حيواته الكثيرة؟ من منا لم يقضم الوهم تفاحة قلبه وروحه أحيانا! في علاقاتنا العاطفية، نقترف وهم المسافة والتضحية والفروسية والإيثار والتمني، والبعض يهرب من المواجهة في أول اختبار، والبعض يتبنى مبدأ “إذا خاصم فجر”، وقلة من هؤلاء يدافعون عن حبهم بالألم والأمل، ويصعّرون خدودهم للكمات المواجهة، ولا يدخرون جهدا في تحمل كل النتائج والمسؤوليات.