بقلم عاج شماجولي _ وغاب عروة

86

بقلم عاج شماجولي

و غاب عروة

وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى
وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ

أَديمُ مِطالَ الجوعِ حَتّى أُميتَهُ
وَأَضرِبُ عَنهُ الذِكرَ صَفحاً فَأَذهَلُ

وَأَستَفُّ تُربَ الأَرضِ كَيلا يَرى لَهُ
عَلَيَّ مِنَ الطَولِ اِمُرؤ مُتَطَوَّلُ

هكذا قال الشنفرى لسانه لسان جميع الصعاليك ممن اعتزٌوا بأنفسهم وتفاخروا لقناعتهم بالفعل الإيجابي الذي يقومون به فتميزوا بالشجاعة والكرم والإيثار والصبر وشدّة البأس والمضاء وسرعة العدو وقد ضرب المثل بهم في ذلك .
لم يعترف هؤلاء الصعاليك بالمعاهدات أو الاتفاقيات بين قبائلهم والقبائل الأخرى فتمرّدوا على السلطة القبلية وطُرِدوا منها ليعيشوا في الجبال والكهوف مصاحبين الوحوش ، متماهين مع الحياة الانعزالية ، فعاشوا حياة ثورية محاربة للفقر والاضطهاد ، تسعى للتحرر في شكله المتمرد غير المألوف ، وقد اجتمعوا في فترات زمنية محددة كحركة لها قوتها وصيتها المنتشر بين القبائل والبوادي

أُطلقت لفظة صعلوك بشكل عام على الفقير ، ممن لا يملك المال الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة إلا أن هؤلاء الصعاليك تجاوزوا تلك الصعلكة بدلالاتها اللغوية وأعطوها معنى آخر كالمروءة والنُّبل ، فالغرض منها كان نداءً يدعو للتضامن والتكافل الاجتماعي و تأكيداً لحق الفقراء في مال الأغنياء ،
فقد تركزت غاراتهم على المناطق الخصبة والقبائل وفيرة المال ليوزّعوا ما يحصدون على فقراء المناطق القاحلة دون التعرّض للأسياد الشرفاء وإنما للأغنياء الأشحاء ممن عُرفوا بالبخل والامتناع عن المساعدة ومد العون إلى أي محتاج ، فيوزعون ذاك المال ويعطونه للمحتاجين و الفقراء إن كانوا أفرادا أو قبائل .

كانوا منقسمين إلى ثلاث فئات :
١ً- فئة الخلعاء الذين نبذتهم قبائلهم بسبب أعمالهم المعارضة للعرف والتقاليد مثل :
حاجز الأزدي، قيس الحدادية و البراض بن قيس الكناني.
٢ً- فئة العبيد ممن نبذهم آبائهم لسوادهم الموروث من أمهاتهم الحبشيات فلم يلحقونهم بأنسابهم مثل : السليك بن السلكة وتأبّط شرّا والشنفرى
٣ً- وفئة احترفت الصعلكة احترافاً وحولتها إلى ما يفوق الفروسية من خلال أعمال الخير التي كانوا يقومون بها ويقدمونها مثل : عروة بن الورد

وقد ساعدتهم طبيعة الجزيرة العربية القاسية على استمرار وجودهم وصعوبة ملاحقتهم ، أو العثور عليهم ، لذلك لا عجب أن تجد في شعرهم ما يصور لنا جانبا من طبيعة تلك البيئة التي كانوا يعيشون فيها فيصفون شدة البرودة و شدة الحر والهجير والرمضاء، وهذا أحدهم يقول:

ويوم من الشّعرى يذوبُ لوابه  أفاعيه في رمضائه تتململُ

كما ظهرت في شعرهم صور الحنين والشوق إلى مواطنهم وأيام صباهم ووصفهم الشجاعة والفروسية وتحديهم المجتمع وكان أشهرهم على الإطلاق عروة بن الورد حيث نال لقب { أبي الصعاليك } لاعتناءه بهم ومناصرتهم وسعيه الدائم لحماية الفقراء ومؤازرتهم فكان الناس ينادونه مستنجدين
‏{{ أغثنا يا أبا الصعاليك }} وها هو يقول :

وَلَكِنَّ صُعلوكاً صَفيحَةُ وَجهِهِ
كَضَوءِ شِهابِ القابِسِ المُتَنَوِّرِ

مُطِلّاً عَلى أَعدائِهِ يَزجُرونَهُ
بِساحَتِهِم زَجرَ المَنيحِ المُشَهَّرِ

إِذا بَعُدوا لا يَأمَنونَ اِقتِرابَهُ
تَشَوُّفَ أَهلَ الغائِبِ المُتَنَظَّرِ

فَذالِكَ إِن يَلقَ المَنِيَّةَ يَلقَها
حَميداً وَإِن يَستَغنِ يَوماً فَأَجدَرِ

شقاء وسعي ونضال هكذا كانت حياتهم ، و بصورة مماثلة لشقاء وتعب الحياة الذيْنِ نعاني منهما اليوم وإن اختلف النمط والأسلوب .
و بملاحظة الفرق بين العصور واختلاف مفاهيم العادات والتقاليد فيما بينها ، نجد بعض أثرياء اليوم و كأنهم ينتقمون لأجدادهم الذين سُلبوا من قبل هؤلاء الصعاليك فعكسوا مفهوم الصعلكة ليحمل مفهوماً جديداً في اقتناص المال ، لكن بطريقة عصرية حديثة انسيابية ماكرة تعتمد على جيوب العامة والفقراء ،
فما عاد بمقدور هؤلاء والذين تزايدت أعدادهم بكثرة أن يجدوا ملاذا وعونا يسد رمق فقرهم أو أن يجدوا ذاك الذي يلجؤون إليه فينادونه
{{ أغثنا يا أبا الصعاليك }}