من دمشق الآرامية إلى فلسطين الكنعانية(الجزء١) بقلم سليمان أمين

7

(١)

من دمشق الآرامية إلى فلسطين الكنعانية : ولادة الهوية بين الحياة والموت … وحروب لا تنتهي

بقعة ضوء : الإعلامي سليمان أمين

في قلب المشرق القديم تمتد رقعة جغرافية وصفها المؤرخون والحضاريون كوحدة حضارية متصلة، من دمشق العريقة إلى المدن الساحلية الفلسطينية، تشكل ما يعرف اليوم بـ”بلاد الشام”. هذه الرقعة، التي شهدت ولادة أولى المدن، ونشوء الأبجدية، وظهور الدين والسياسة المنظمة، تحمل في طياتها عبق حضارات متعددة وتاريخاً طويلاً من الصراعات والتحالفات، لكنها، مع ذلك، حافظت على انسجام حضاري فريد يربط بين ما يُعرف بـ”الآرامية” و”الكنعانية” من حيث اللغة والطقوس والذاكرة الجماعية.

لا يمكن دراسة هذا المشرق بمعزل عن جغرافيته التاريخية, فهو ليس مجرد مساحة على الخارطة، بل مسرح للتفاعل الدائم بين الأرض والإنسان، بين الحياة والموت. دمشق، المدينة التي شكلت قلب الآراميين، لم تكن مجرد مركز إداري أو تجاري، بل رمز للثبات الحضاري، نقطة التقاء الطرق والقوافل، ومسرح لتجارب الهوية المتعددة. بالمقابل، فلسطين الكنعانية، أرض المدن الساحلية والموانئ، لم تكن مجرد امتداد جغرافي، بل نقطة تماس حضارية وثقافية، حيث التقت الأمم والمعتقدات، واختلطت مصالح القوى الإقليمية، لتصبح رقعة تتجاوز بعدها المحلي إلى أبعاد وجودية وجيوسياسية أوسع.

هنا تكمن إشكالية البحث الرئيسة: كيف تشكلت الهوية المشرقية بين قطبي “الآرامية” و”الكنعانية”؟ هل يمكن فهم الصراعات المستمرة على أنها نتيجة لعوامل جغرافية حتمية، أم أنها لعنة تاريخية متجددة تعيد نفسها عبر الأجيال؟ هذا السؤال يدفعنا إلى إعادة التفكير في العلاقة بين دمشق والقدس، ليس كعلاقة جغرافية مجردة أو جوار مكاني، بل كعلاقة تكامل وجودي، حيث يكون الموت في أحدهما تهديداً للحياة في الأخرى، والعكس صحيح.

التاريخ يظهر كيف يمكن للمدن أن تتحول إلى رموز للهوية والجغرافيا إلى ساحة للصراع والبقاء. كل مرحلة من مراحل النزاع أو السلام تحمل انعكاسات مباشرة على المجتمعات المشرقية، سواء من حيث الدين، اللغة، الثقافة، أو الاقتصاد. وبالتالي، يصبح فهم هذا المشرق القديم مسألة تتجاوز مجرد وصف الحقب الزمنية، لتصبح دراسة عميقة للعمق الوجودي للهوية، وكيفية مقاومتها وتحولها عبر الزمان والمكان.

منهجياً، تعتمد هذه الدراسة على المنهج التاريخي التحليلي الذي يتيح إعادة النظر في الأحداث الكبرى والصغرى وربطها بالعمليات الحضارية الكبرى، مع الاعتماد على المنهج المقارن الذي يسمح بمقارنة التطورات الثقافية والاجتماعية بين دمشق وفلسطين، بين الآراميين والكنعانيين، وبين المدينة الساحلية والمدينة الداخلية، في محاولة لرسم خريطة للعلاقات التبادلية التي شكلت المشرق القديم كما نعرفه اليوم.