حين تطعن الحقيقة ذاتها بقلم الأستاذ مصطفى المقداد
حين تطعن الحقيقة ذاتها
كتب مصطفى المقداد :
– في كل روايةٍ نرويها،
-في كل كلمةٍ نكتبها،, يقف الحقّ مثل ضوءٍ خفيف لا يريد أكثر من أن يُرى.
لا يطلب منا أن نرفعه، ولا أن نزيّنه، ولا أن نُلبسه ثوبًا جديدًا.
يطلب أمرًا واحدًا فقط: أن نثق به.
ولكن…
حين يخاف صاحب الحقّ من حقّه، تبدأ الكارثة.
وحين يظنّ أن الحقيقة وحدها لا تكفي، يدخل في طريقٍ لا عودة منه؛ طريقٍ وعرٍ من تلك التفاصيل الصغيرة التي تُضاف على استحياء… ثم تنقلب لاهبةً كعود ثقاب في غرفة مغلقة.
تبدأ المسألة هكذا:
تفصيلٌ واحد… جملة واحدة… لمعةٌ صغيرة تُضاف إلى وجه الحقيقة،
ظنًا بأنها ستزيدها قوّة.
لكن الحقيقة، يا أصدقاء الكلمات، ليست امرأةً تحتاج زينة،
ولا طفلاً يحتاج أن نرفع صوته كي يسمعه العالم،
ولا جنديًّا نزيّنه بالنياشين ليستعيد هيبته.
الحقيقة تكفي نفسها بنفسها.
وكل إضافة عليها… خصمٌ منها.
أتأمّل دائمًا اللحظة التي يبدأ فيها الكذب:
إنها لا تأتي بصوتٍ مرتفع، ولا بيدٍ ترتجف.
تأتي ناعمة، مُقنعة،
تشبه محاولة إصلاح وردةٍ ذابلة بمزيدٍ من العطر،
كأن العطر يعيد للزهرة ماءها…
وكأن الزخرفة تعيد للحقيقة روحها.
الحقيقة لا تحتاج إلى زخارف.
ولم يحدث في تاريخ البشر أن حقيقةً صارت أقوى بكذبة،
ولا روايةً ازدادت صدقًا بمبالغة،
ولا مؤسسةً استعادت احترامها بتفصيلٍ مُختلَق مهما بدا صغيرًا.
الناس —وهذه حكمة لا تخطئ—
يغفرون للكاذب لأنه كاذب،
لكنهم لا يغفرون للصادق حين يجرب الكذب مرة واحدة.
الناس، يا صديقي، يُشبهون الماء:
شفاف حين يثق،
ومُعكَر حين يشكّ.
وما إن يدخل الشكّ إلى الرواية، حتى يتسع مثل دائرةٍ في بحيرة،
تكبر… وتكبر…
حتى لا يعود أحد يرى الحقيقة كما كانت.
كم من حقيقةٍ ماتت برصاصة طائشة أطلقها صاحبها.
وكم من روايةٍ عادلة سقطت لأن من حملها خاف عليها أكثر مما يلزم.
والخوف —كما نعلم— لا يحمي… بل يهدم.
لا يقوّي… بل يربك.
لا يزيد صدقًا… بل يفتح الباب أمام الريح.
أحيانًا أفكر أن الحقيقة ليست ضوءًا،
بل كائنٌ هشّ
لا يحتمل أن نُحمّله فوق طاقته،
ولا يحتمل أن نربطه ببهارج ليست له،
ولا أن نرفع صوته حتى يتخشّب.
الحقيقة تريد أن تمشي على قدميها،
دون عصا،
ودون مؤثرات،
ودون قصص تتقدّمها مثل جوقةٍ تمهّد الطريق.
وكل محاولة لتضخيمها،
كمن ينفخ في جمرٍ يريد أن يظلّ دافئًا…
فينقلب نارًا تحرق اليد التي حَمَته.
إن أخطر ما قد يفعله صاحب الحقّ هو أن يخون نفسه.
والخيانة هنا لا تأتي من خصومةٍ أو عداوة،
بل تأتي من لحظة ضعفٍ صغيرة،
يظن فيها أن الناس لن يفهموا،
أو أن الحقيقة لا تلمع بما يكفي،
فيضيف إليها ما يظنّه ضوءًا…
فإذا هو دخان.
لذلك…
حين نفكّر في حماية الحقيقة،
فلنتذكر أن حمايتها لا تكون بالزيادة،
بل بالإنصات.
لا تكون بالصوت المرتفع،
بل بالصوت الواثق.
لا تكون بالقصّة التي نُضيفها،
بل بالقصّة التي نحذفها.
الحقيقة —مثل النار الصغيرة—
تحتاج أن نتركها تتنفس.
فإن خنقناها، انطفأت.
وإن زدنا وقودها، احترقت.
لكنها حين تُحرس بالحكمة…
تضيء الطريق كلها.
وهكذا،
يبقى الدرس نفسه، بسيطًا، عميقًا، لا يشيخ:
احمِ الحقيقة بالصمت، لا بالمبالغة.
احملها كما تحمل قلبك… ليس أكبر مما هو، ولا أصغر مما ينبغي.
دعها تمشي دون أن ترفعها.
دعها تقول نفسها بنفسها.
فالحقيقة التي تحتاج إلى كذبة لتنهض…
لن تنهض.
والرواية التي تستند إلى تفصيلٍ مختلق…
ستسقط كلها مهما بدا السند صغيرًا.
وفي النهاية…
يبقى الحقّ أوضح حين يبقى عاريًا،
وأقوى حين يبقى صادقًا،
وأجمل… حين لا نضيف إليه شيئًا.